آلة الأوراكل القديمة: هل تواصل البشر مع الآلهة؟

 



في أعماق الحضارات القديمة، كان البشر يبحثون دومًا عن إجابات لما لا يُفهم. المرض، الموت، المستقبل، الحروب، القرارات المصيرية... كلها كانت تُحيل الإنسان إلى جهة يظن أنها أعلى، أعلم، وربما... موجودة خلف حجاب لا يُرى. ومن هنا، ظهرت فكرة "الأوراكل" أو العرّافة المقدسة، وأشهرها في العالم القديم كانت أوراكل دلفي في اليونان.

لكن المثير حقًا، هو أن ما كان يُعتقد أنه تواصل روحاني مع الآلهة، قد يكون اليوم مُفسرًا علميًا، بل ويرتبط باكتشاف مذهل لآلة "تنبؤية" يعتقد البعض أنها أول كمبيوتر في التاريخ.

فهل كان الأوراكل مجرد خرافة؟ أم أنها كانت تستند إلى تكنولوجيا أُخفيت عمدًا عن الأجيال؟


من هي الأوراكل؟

في العالم اليوناني القديم، كانت "الأوراكل" امرأة تعمل في معبد، تدخل في حالة نشوة أو وحي، ثم تُقدم إجابات عن الأسئلة التي يطرحها الملوك والكهنة والمواطنون. لم تكن الإجابات واضحة، بل رمزية وغامضة، ويقوم الكهنة بترجمتها لاحقًا.

أشهر هذه الأوراكل كانت في معبد أبولو بدلفي، حيث كانت الكاهنة تجلس فوق صدعٍ في الأرض، ويُقال إنها تستنشق أبخرة غريبة تصدر من باطن الجبل، تدخل بعدها في "نوبة إلهام" تبدأ خلالها في نطق كلمات مبهمة.

الأغرب أن قرارات كبرى في الحروب والسياسة تم اتخاذها بناءً على نبوءات الأوراكل… فما الذي كانت تعرفه؟ وما مصدر تلك "الرؤى" الغريبة؟


اكتشاف مذهل: آلة أنتيكيثيرا

في عام 1901، عثر غواصون على قطعة معدنية متآكلة بين حطام سفينة غرقت قبالة جزيرة "أنتيكيثيرا" في اليونان. في البداية، ظن العلماء أنها مجرد تروس مكسورة، لكنها تحوّلت لاحقًا إلى لغز علمي حيّر العالم.

القطعة كانت تحتوي على تروس دقيقة، ومؤشرات فلكية، ونظام معقّد من الحركات، وقدّر العلماء أن عمرها يعود إلى القرن الثاني قبل الميلاد. بعد عقود من التحليل، اكتشف الباحثون أنها آلة كانت تُستخدم لحساب مواقع الكواكب، خسوف القمر، مواعيد الأولمبياد، وحتى الظواهر الفلكية المستقبلية!

أطلق عليها اسم "حاسوب أنتيكيثيرا"، وأصبحت تُعرف اليوم بأنها أقدم آلة حاسبة فلكية معروفة للبشرية.


العلاقة الغامضة بين الأوراكل والآلة

هنا يبدأ السؤال الحقيقي:
هل استخدم كهنة دلفي أجهزة فلكية سرّية لمعرفة توقيتات معينة، أو أحداث فلكية، وأعادوا صياغتها بأسلوب رمزي على لسان الكاهنة؟
وهل كانت حالة "الغياب عن الوعي" مجرد طقس ديني يخفي خلفه عملية تحليل علمية حقيقية؟

بعض المؤرخين يعتقدون أن الكهنة في المعابد الكبرى امتلكوا معرفة فلكية متقدمة، سمحت لهم بالتنبؤ بالكسوف أو بفيضان النيل، ما أعطاهم سلطة روحية مطلقة. ولتعزيز هذه السلطة، تم تغليفها بطقوس "الآلهة" والأرواح.


الأبخرة الغامضة: خدعة أم ظاهرة طبيعية؟

في تسعينيات القرن العشرين، قام فريق من الجيولوجيين بتحليل الموقع الجغرافي لمعبد دلفي، ووجدوا أن المعبد مبني فوق صدعين أرضيين يتقاطعان، ينبعث منهما غاز الإيثيلين – وهو غاز معروف بقدرته على التسبب في الهلوسة عند استنشاقه بتركيزات معينة.

هذا يُفسّر "الرؤى" التي كانت تراها الكاهنة، لكن لا ينفي أن الكهنة كانوا يعلمون بتأثيره ويستخدمونه بذكاء. أي أن الطقوس لم تكن عشوائية، بل مبنية على فهم عميق للطبيعة والجسد البشري.


هل تم إخفاء هذه المعرفة عمداً؟

مع صعود الديانات الجديدة في القرون التالية، أُغلقت معابد الأوراكل، ودُمرت الآلات، وأُعيد تأطير المعرفة القديمة تحت عناوين السحر والكفر. هل كان ذلك بهدف حماية الإيمان الجديد؟ أم أن هناك من قرر أن بعض المعرفة يجب أن تبقى مدفونة؟

حتى اليوم، تُعتبر آلة أنتيكيثيرا لغزًا جزئيًا. لم يُفهم بالكامل كيف صُممت، أو كيف وصلت تلك المعرفة الدقيقة إلى ذلك العصر، أو لماذا لم تُنقل للأجيال التالية.


الخلاصة: من تكنولوجيا الماضي إلى غموض الحاضر

قصة الأوراكل، وما ارتبط بها من طقوس، وأجهزة، وتنجيم، قد لا تكون مجرد خرافات. بل ربما كانت بداية لتاريخ طويل من التحكم في المعرفة، واستخدامها لقيادة الشعوب.

اليوم، قد نستغرب أن قرارات الحروب كانت تُتخذ بناءً على "وحي"، لكن من يدري؟
ربما نحن نفعل الشيء ذاته، بأسماء مختلفة، وتقنيات أكثر تطورًا… لكن الجوهر لم يتغير.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فندق أراك؛ الفندق الذي أصبح مكبا للنفايات ومسكنا للجن

الإسقاط النجمي: ماهو الإسقاط النجمي وكيف يتم :

مخطوطه العزيف اخطر كتاب قتل صاحبه